الحضارة الإتروسكية
الإتروسكان أو الإتروريون (Eutruscan) يعود أصلهم إلى آسيا. نزحوا الي اقليم توسكانا بشمال ووسط ايطاليا خلال عام 1000 ق.م. وجمعوا ثروات
ضخمة . فأقاموا لهم مقابر تشبه مقابر الشرق وقد بلغوا أوج قوتهم سنة 500 ق.م. ألا
أنالقرطاجيين هزموهم عام 474 ق.م. في معركة كومبي البحرية الشهيرة. اشتهروا
بصناعة الفخار والمصنوعات البرونزية . وكانت حضارتهم متأثرة بالحضارة الاغريقية .
الا أنهم تفوقوا عليها في المعمار وصناعة التماثيل . وكانوا قد توسعوا فيما بين
نهري أرنو و تيبر و البحر الأدرياتيكي لاستغلال
مناجم النحاس والفضةوالحديد . كما استولوا علي روما وسهل لومباردي . وقد أحاطوا روما بسور وعمروها
وأقاموا فوق تل الكابيتول معبد الإله زيوس. لأنهم كانوا يعبدون آلهة اليونان .وكانت تتميز حضارة الاتروسكان
باقامة الأسوار حول المدن والقباب في المباني والتماثيل الكبيرة في شكل حيوانات
وبشر. و اشتهروا بالنحت والفخار وصناعة الحلي والمشغولات بدقة متناهية سواء من الذهب أو النحاس أو البرونز . وكانت المدن الإتروسكانية
تتميز بأنها مدن دويلات مستقلة تدافع ذاتيا عن نفسها . لهذا كانت تقام فوق التلال
. وكانت البيوت مربعة وتطل النوافذ على فناء داخلي.
كان الإتروسكيون يتحدثون لغة تختلف
في أصولها عن لغات الأقوام الإيطالية القديمة وهي ليست من أسرة اللغات الهندية
الأوربية على الرغم من تأثرها بها. وبعد سيادة رومة حلت اللغة اللاتينية محل اللغة
الإتروسكية التي اضمحلت تدريجياً إلى أن غدت لغة ميتة. وأغلب النصوص الإتروسكية
التي عثر عليها هي نقوش جنازية في المدافن، ويرجع أغلبها إلى القرن السابع ق.م،
وقد ساعدت هذه النصوص الكثيرة بمقارنتها مع بعض النصوص اللاتينية المستعملة في
مناسبات مماثلة، على توفير معلومات مهمة، على ضآلتها، كمعرفة شجرات نسب بعض الأسر
الإتروسكية والرومانية والتقاليد الدينية والتنظيم السياسي، كما ساعدت على كشف بعض
جوانب اللغة الإتروسكية التي لاتزال صعبة الحل. وثمة ثلاثة نصوص مطولة نسبياً
باللغة الإتروسكية تمثل مكانة خاصة عند علماء اللغات القديمة، وأول هذه النصوص
وأطولها مكتوب على لفيفة كتانية قطعت إلى عصائب تشبه العصائب التي استعملت في
تحنيط مومياء مصري، وهي محفوظة في أحد متاحف مدينة زغرب في كرواتية اليوغوسلافية،
ويتألف النص من 281 سطراً ويضم 1300 كلمة. أما النص الثاني فمنقوش على قطعة من
الآجر عثر عليها في مدينة كابا في كامبانية ويتألف من 46 سطراً. أما النص الثالث
فهو نقش شاهدة مدفن نذرية عثر عليها في مدينة بروجيه. وقد عثر في عام 1964 على
نصين منقوشين من لوحين من ذهب، كما عثر كذلك على نموذج كبير من البرونز عليه نقش
من 45 كلمة ربما كانت إرشادات لشعائر دينية.
وقد غدا
من الممكن اليوم قراءة الكتابات الإتروسكية، لأن الألفبائية الإتروسكية مشتقة بوجه
أو بآخر من الألفبائية اليونانية (الصيغة الخلقيدونية على الأرجح) وتكتب من اليمين
إلى اليسار كأغلب اللغات المشرقية واللغة اليونانية القديمة، وقد تكتب بعض نصوصها
بالأسلوب المحراثي boustrophedon (أي أن اتجاه الكتابة يتبدل في
كل سطر، فيكون السطر الأول من اليمين إلى اليسار والثاني من اليسار إلى اليمين
وهكذا). وقد طرأت تعديلات كثيرة على أشكال الحروف وعددها وتركيب الكلمات والجمل
بمرور الزمن إلى أن اتخذت صيغتها الأخيرة (الكلاسيكية) نحو سنة 400 ق.م فصارت
تتألف من عشرين حرفاً (أربعة صوائت وستة عشر ساكناً). ومع أن اللغة الإتروسكية ظلت
متداولة قروناً عدة بعد ذلك، إلا أن الكتابة بحروفها توقفت في القرن الأول
للميلاد. ولايعني فك رموز الأحرف أو قراءة الكلمات القدرة على فهم معناها، إذ
لاتزال اللغة الإتروسكية مستعصية على الفهم على الرغم من مختلف الدراسات المقارنة
للغة الإتروسكية مع مفردات اللغات القديمة المعروفة كاليونانية والمصرية والآشورية
والكنعانية، ومنها اللغة البونية القرطاجية. وكل ما يمكن تأكيده في هذا المجال أن
الإتروسكية تشبه اليونانية في تركيبها وتصريف بعض كلماتها، وأنها تضم مفردات
وصيغاً مشتقة من لغات سكان إيطالية القدماء وأوربة الجنوبية، وأنها قد تكون متفرعة
عن بعض لغات آسيا الصغرى القديمة أو الساحل السوري.
التاريخ
الإتروسكيون، شعب قديم سكن منطقة إترورية
الإيطالية (بين نهر التيبر ونهر آرنو غربي جبال الأبنين وجنوبيها). وبلغت حضارته
أوج ازدهارها واتساعها في القرن السادس قبل الميلاد. وقد اقتبس الرومان الكثير من
حضارة هذا الشعب الذي تمكنوا من إخضاعه وطمس آثاره بعد صراع مديد. وكان
للإتروسكيين دور كبير في تاريخ شبه الجزيرة الإيطالية من بداية القرن السابع قبل
الميلاد حتى نهاية العصر الجمهوري في رومة، إلا أن سيطرتهم السياسية التي كادت
توحد إيطالية كلها أخذت تنحسر شيئاً فشيئاً منذ القرن الخامس ق.م مع مزاحمة
الإغريق والقرطاجيين، ثم الرومان، إلى أن زالت تماماً بسقوط آخر معاقل الإتروسكيين
أمام ضربات الفيالق الرومانية في معركة سنتينيوم Sentenium سنة
195 ق.م.[1]
على أن التراث الإتروسكي، مع كل ما حظي به من
اهتمام الدارسين منذ القرن الثامن عشر، لايزال يكتنفه شيء من الغموض إلى اليوم،
ولايزال أصل الإتروسكيين ولغتهم وتاريخهم السياسي موضع جدل وبحث. وربما كانت رومة
المسؤول الأول عن إخفاء معالم تلك الحضارة للتدمير الشديد الذي ألحقته قواتها
بالمدن الإتروسكية، ومحاولة كتابها إغفال ذكر هؤلاء في حولياتهم، بل إن منهم من
يعد الإتروسكيين مستعمرين بكل معنى الكلمة.
أصل الإتروسكيين
يطلق الإتروسكيين على أنفسهم اسم «راسنّا» Rasenna أو Rasna ويدعوهم الإغريق باسم «التورنيّين» Tyrrhenoi أو «التورسنيين» Tyorsenoi ويسميهم
الرومان «التوسكيين» Tuscé أو «الإتروسكيين»
Etrusci،
ويكاد المؤرخون القدامى يجمعون على أن الإتروسكيين هم من اللوديين سكان مقاطعة
لودية في آسيا الصغرى، على قول هيرودس، وأن قسماً من شعب لودية اضطر إلى النزوح عن
وطنه بسبب مجاعة كبيرة في أواخر القرن الثالث عشر قبل الميلاد، وقد غادر هؤلاء
ميناء سميرنة (إزمير اليوم) بزعامة أمير منهم اسمه تورنوس بن آتيس،
وهاموا على وجوههم في البحر زمناً إلى أن ألقوا مراسيهم عند سواحل إيطالية الوسطى،
في أرض الأمبريين (نسبة على أمبرية) حيث أسسوا مدناً جديدة، وانتسبوا فيها إلى
أميرهم فسماهم الإغريق التورنيين في حين نسبهم الكتاب الرومان إلى موطنهم الأول
فسموهم لوديين، ومن هؤلاء الكتاب فرجيل Vergil وهوراشيوس Horatius وأوفيد Ovide (القرن
الأول ق.م) كما دعوهم توسكيين نسبة إلى توسكانة، وإتروسكيين نسبة إلى إترورية وهي
المقاطعة التي تألقت فيها حضارة هذا الشعب في القرن السابع قبل الميلاد. وثمة
مؤرخون يرفضون هذه الرواية، وفيهم المؤرخ الإغريقي ديونيسوس الهاليكارناسي ( ت سنة
8 ق.م)، ويقول هؤلاء إن الإتروسكيين هم شعب إيطالي محلي من أحفاد سكان توسكانة،
وهذا ما يفسر انفرادهم بلغة وحضارة ومعتقدات تخصهم وحدهم، ولم يتمكن الباحثون إلى اليوم
من إعطاء الجواب الكافي بهذا الصدد، ومنهم من يزعم أنهم من الشرق وأنهم تسربوا إلى
إيطالية عن طريق الألب. ويزيد في غموض هذه المسألة أن اللغة الإتروسكية - على ندرة
ما يعرف عنها - تختلف كثيراُ عن لغات شعوب إيطالية الأخرى، وفيها عناصر من أسرة
اللغات الهندية - الأوربية، إلا أن تركيبها غامض وحروف كتابـتها بائدة، وربــما
كانت لها صلة بلغات شعوب بحر إيجة قبل العصر الهليني، وقد بادت هذه اللغة بسبب
طغيان اللغة اللاتينية. وماتبقى من الوثائق الإتروسيكية النادرة مكتوب بحروف
إغريقية يسهل تحليلها ويصعب تفسيرها، ومعظمها يطرق موضوعات دينية أو جنازية قصيرة.
ومن جملة الوثائق التي عثر عليها نصب في جزيرة لمنوس، إحدى جزر الأرخبيل الإيجي،
عليه كتابة إتروسكية، يرجع إلى القرن السابع قبل الميلاد، وقد يكون دليلاً على أن
الإتروسكيين جاؤوا من آسيا الصغرى، وأن بعض سفنهم رسا في تلك الجزيرة زمناً قبل أن
يواصل إبحاره غرباً. وفي هذه الحالة يكون تاريخ هجرتهم هو القرن الثامن ق.م وليس
الثالث عشر ق.م كما يقول هيرودس. ومن الأدلة الأخرى التي تشير إلى أصل الإتروسكيين
الشرقي السمة الشرقية التي وسمت تراثهم وعاداتهم ومعتقداتهم الدينية، ومنها مكانة المرأة
في الأسرة والمجتمع التي تماثل ما كانت عليه في المجتمع الكنعاني والنبطي
والتدمري، ومنها كذلك اعتقادهم بدين مُنزل دونت تعاليمه في كتب مقدسة، واعتقادهم
بالعرافة والتنبؤ وفحص كبد الضحية لمعرفة المستقبل، على نهج بلدان المشرق القديمة.
نهضة الإتروسكيين وانحطاطهم
من المتعذر ترتيب تاريخ الإتروسكيين مفصلاً في
غياب الوثائق والأساطير التي توارثها هذا الشعب، ولندرة ما تشير إليه الكتابات
الإغريقية والرومانية. وكل ما يعرف عنهم أن بلادهم كانت تتألف من مدن - دويلات
مستقلة أقامت فيما بينها تحالفاً دينياً وسياسياً كان له أثره في الحياة
الاقتصادية والاجتماعية. وأنهم ظهروا في توسكانة (إترورية) في مطلع القرن السابع
ق.م وراحوا يمدون نفوذهم شيئاً فشيئاً على المناطق المجاورة، ويشيدون المدن
الحصينة، وينشطون زراعياً وصناعياً وتجارياً. فسيطروا على منطقة لاتيوم في وسط
إيطالية في العصر الملكي، ويعود إليهم فضل نشوء رومة التي عدت جسراً يربط شمالي
إيطالية حيث يقوم الإتروسكيين بجنوبيها الذي كان الإغريق قد وفدوا إليه منذ القرن
الثامن قبل الميلاد وأقاموا لهم مستعمرات تجارية وزراعية. وقد استمر الإتروسكيون
في زحفهم جنوباً حتى أدركوا ربوع كامبانية وأسسوا مدينة كابوا Capua واصطدموا بالإغريق في هذه البقاع. ووجد الإتروسكيون في القرطاجيين حلفاء
طبيعيين لهم فتعاونوا معهم على هزيمة الإغريق في معركة ألريه Aleria البحرية سنة 535 ق.م (تسميها بعض
المصادر آلالية Alalia). وتوقف توسع الإغريق مؤقتاً، كما اضطروا إلى الجلاء عن قواعدهم
في كورسيكة (قرشقة). وفي الوقت نفسه شرع الإتروسكيون في التوسع شمالاً حتى سهل
البو وسواحل الإدرياتي، وهكذا بلغ الإتروسكيون في القرن السادس ق.م أوج سطوتهم
عسكرياً وسياسياً واقتصادياً، وشجعهم وضعهم هذا على محاولة طرد الإغريق من اليونان
الكبرى (جنوبي إيطالية) فحاصروا مدينة كوماي Cumae. ولكن هيرو Hiero حاكم سيراكوزة (سرقوسة) الصقلية
هب لنجدة المدينة وأجبر الإتروسكيين على رفع الحصار عنها سنة 474ق.م. وبعد تراجع
الإتروسكيين عن مدينة كوماي بدء انحسارهم عن جنوبي إيطالية وأواسطها، ومع أنهم لم
يخلوا جميع مواقعهم في كامبانية، فقد تعرضت مواصلاتهم مع الجنوب للخطر بسبب
المتاعب التي كان يثيرها اللاتين (سكان مقاطعة لاتيوم ومركزها رومة). عندما لجأ
الإتروسكيون إلى تأمين مواصلاتهم بحراً انبرى لهم أسطول الإغريق بزعامة مدينة
سيراكوزة فقضى على تجارتهم البحرية قضاء تاماً، كذلك استطاع اللاتين، الذين أخذ
نجمهم في الصعود، مد سيطرتهم إلى أجزاء كبيرة من لاتيوم وكامبانية والاستيلاء على
مدينة كابوا كبرى مدن كامبانية سنة 421ق.م. وتفاقم الوضع تماماً بظهور الأقوام
الغالية في أقصى الشمال الإيطالي، التي عبرت جبال الألب واكتسحت سهل البو وهددت
إترورية نفسها. بل إن بعض قبائل الغال أوغلت حتى رومة ونهبتها سنة 390 ق.م ولم يحل
منتصف القرن الرابع ق.م حتى كان الإتروسكيون قد فقدوا جميع مواقعهم خارج إترورية،
وانتقلت المبادأة إلى أيدي الرومان الذين أقاموا لأنفسهم دولة قوية في لاتيوم
واستخدموها قاعدة انطلاق لتوسعهم اللاحق. واستطاعت رومة في المدة ما بين بداية
القرن الرابع ومنتصف القرن الثالث قبل الميلاد إخضاع معظم المناطق التي كانت في يد
الإتروسكيين والغاليين والإغريق، وتوحيد شبه الجزيرة الإيطالية بزعامتها، ولم يفد
الإتروسكيين تحالفهم مع شعوب إيطالية القديمة كالسامنيين (من أقوام إيطالية
الوسطى) للحد من السيطرة الرومانية المتنامية، فسقطت مدنهم الواحدة تلو الأخرى،
واضطر بعضها إلى الدخول في حلف مع رومة ولاسيما المدن الشمالية منها، التي كانت قد
بلغت أوج ازدهارها. وفي المرحلة الأخيرة من تاريخ الإتروسكيين فقدت إترورية
استقلالها السياسي بعد معركة سنتينيوم (195 ق.م) واندمجت في الاتحاد الإيطالي
الروماني مع احتفاظها بطابعها ولغتها، ثم ألحقت برومة إلحاقاً تاماً في بداية
القرن الأول ق.م، وحملت سماتها وحقوق المواطنة فيها.
يرجع بعض المؤرخين أسباب غلبة رومة واندحار
الإتروسكيين ثم غيابهم عن صفحات التاريخ إلى عدم وجود وحدة نافذة بين مدنهم
المختلفة. فقد كانت إترورية تتألف من اتحاد مدن ـ دويلات مستقلة ومتنافسة فيما
بينها، وكان سكانها يتألفون من طبقة فقيرة جلها من سكان إيطالية القدماء، وطبقة
موسرة حاكمة من الإتروسكيين. ويعد المؤرخون 12- 15 مدينة - دويلة إتروسكية هي
الأكثر شهرة في الاتحاد الإتروسكي ومنها:
أرزّو Arezzo (أرّتيوم Arretium) وبلزنة
(فولسيني Volsinii وهي فلزنة اليوم) وروسلانة Rusellana (روسل اليوم Roselle) وبروزية Perusia (بورجية
اليوم Perugia) وبوبولانة
Pupulana (بوبولونية Populonia) وكايري Caere (سرفتوري Cervetori) وترخونة Trachuna (تركوينية Tarquinia) وخمارس Chamars (كلوسيوم Clusium أو كيوزي Chuisi) وكوريونة Cortona وفلخة Velch (فولتشي Vulchi) وفلسينا Felsina (بولونية
اليوم Bologna) وفايسولاي
Faesulae (فيسولي Fiesole قرب فلورنسة) وفلاتري Velathri (فولتيرا Volterra) وفيي Veii (فيو Veio) وفيتولونية Vetulonia. ولعل
هذه المدن كانت من قبل قرى يقطنها سكان إيطالية القدماء ثم تحولت في أواخر عصر
الحديد (القرنين 8 و7 ق.م) إلى مدن مزدهرة.
وكانت هذه المدن - الدويلات عواصم إقليمية
للإتروسكيين ويحكم كلاً منها ملك يحمل لقب «لوكومون» أي شيخ القبيلة، وبيده
السلطات السياسية والعسكرية والدينية.
وتقول الروايات إن رومولوس - مؤسس رومة - كان
يحمل هذا اللقب، كما حمله الملك الإتروسكي ترقوينس الأول قبل أن يصبح أول ملك
إتروسكي يحكم رومة (616- 578ق.م). وقد خضعت رومة لسلالة هذا الملك حتى عام 510 ق.م
عندما طرد منها الملك ترقوينس سوبيربوس وغدت جمهورية. كذلك شهدت المدن الإتروسكية،
تطوراً جديداً في نظام حكمها، وتبنت النظام الجمهوري تدريجياًُ، فيما عدا مدينة
فيو التي تقع على مسافة 21 كم شمال رومة، والتي خاضت معها صراعاً مريراً دام زهاء
قرن/ وانتهى بسقوط المدينة في يد الدكتاتور الروماني كاميلوس بعد حصار عشرة أعوام
(405- 395ق.م) فنهبها وأحرقها، وأدى سقوط مدينة فيو إلى سلسلة من الكوارث حلت بمدن
الإتروسكين الأخرى التي آل أمرها إلى السقوط بيد رومة وحلفائها اللاتين.
كان لكل مدينة إتروسكية مجلس يمثل أسرها
الأرستقراطية. وينتخب مجلس المدينة رئيساً من أعضائه يطلقون عليه لقب زلات بورثنه Purthne Zilath أي «حاكم المدينة». وكانت المدن الإتروسكية المختلفة توفد
ممثلين عنها إلى مدينة بلزنة في وقت محدد من كل سنة، وينعقد مجلس الممثلين هذا
بالقرب من المعبد المخصص للإلهة فولتومنة ويناقشون قضاياهم ومصالحهم المشتركة بعد
أداء الواجبات الدينية. وفي القرن السادس قبل الميلاد، عندما بلغ الإتروسكيون أوج
ازدهارهم وعظمتهم، عمدوا إلى انتخاب حاكم عام يمثل اتحادهم، ويملك صلاحيات التفاوض
مع الأطراف الخارجية، واتخاذ القرار في قضايا السلم والحرب، ووضع الخطط. ولاتعد
توجيهاته ملزمة إلا بموافقة جميع مدن الاتحاد. وفي الأوقات الحرجة، عندما يتهدد
الشعب الإتروسكي خطر شديد، كانوا يضعون قواتهم بإمرة قائد عام منهم يعاونه ضباط
أركان من مختلف المدن. ولكن الإتروسكيين لم ينجحوا أبداً في تحقيق وحدة من أي نوع،
أو في إزالة التناقضات بينهم، وعلى الرغم من اضمحلال نفوذهم السياسي فقد حافظوا
على تأثيرهم الحضاري في المجتمع الروماني في شتى الميادين، ومنها اقتباس الرومان أنظمة
الحكم عنهم، فأطلق الرومان لقب (لوكومون) على من يرث صلاحيات الملك، ثم اقتصرت
مهامه، بعد التحول إلى النظام الجمهوري، على الشؤون الدينية. وكان موكب اللوكومون
الإتروسكي يضم حرساً يحملون فؤوساً ذات حدين وترمز لسلطة الحاكم. وقد جعل الرومان
هذه الفأس رمزاً لسلطان بعض حكامهم كالدكتاتور والقناصل وقادة الفرسان. وقد عرفت
بعض جوانب التنظيم العسكري عند الإتروسكيين من إناء برونزي محفوظ في متحف مدينة
بولونية، ويعود إلى القرن الخامس ق.م وقد رسمت على هذا الإناء أشكال تمثل جيشاً في
حالة المسير، ويأتي الفرسان في المقدمة ثم يليهم المشاة الخفيفو التسلح، ثم
المسلحون بأسلحة ثقيلة. أما لباس جندي المشاة فيتألف من ثوب مخصر إلى الركبتين ومن
بيضة (خوذة) تقي رأسه ووجهه على نحو ما كان شائعاً لدى الإغريق، وأما سلاحه فيتألف
من الفأس المزدوجة والسيف والمزراق والرمح ومجن مستدير يتقي به الجندي ضربات
العدو، وكان الإتروسكيون يخصون القائد المنتصر بموكب نصر ديني الطابع، فيطلون جسده
بالزنجفر الأحمر (أكسيد الرصاص)، ويحيطون عنقه بسلسلة تحمل تعويذة ذهبية، ويتوجونه
بإكليل من ذهب على هيئة غصن سنديان، ويخلعون عليه حلة حمراء، وفي يده صولجان من
عاج عليه نسر باسط جناحيه. وقد اقتبس الرومان فيما بعد جل هذه المراسم في مواكب
النصر التي كانوا يقيمونها.
الديانة
لايمكن فهم الحضارة الإتروسكية من دون اعتبار
لحقيقة أنها عاصرت الحضارة الإغريقية وعاشت معها جنباً إلى جنب، وأنها كانت على
اتصال وثيق ومباشر بالعالم الإغريقي، واكتسبت منه الكثير من المفاهيم والعادات
والمهارات. إلا أن الإتروسكيين، كغيرهم من شعوب إيطالية القديمة، لم يسهموا
إسهاماً مباشراً في تطور الفكر الإغريقي، وحافظوا في كثير من أوجه تفكيرهم على
طابعهم الشرقي وعلى ثقافة المشرق والبحر المتوسط، ولاسيما في معتقداتهم الأولى.
وتظهر هذه الحقيقة جلية في ديانتهم التي آمنت بالقدر قوة خفية وبالحياة الآخرة، مع
اعتقادهم بإمكانية التنبؤ بما سيحدث، ومعرفة إرادة الآلهة عن طريق تحري أحشاء
الحيوانات ومراقبة البرق والرعد وطيران الطيور. ثمة كتب مقدسة للإتروسكيين تتضمن
وصايا الإلهة فيغويه Vigoe ونصف الإله تاجس Tages، وتبحث في شعائر العبادة والقدر
والإنسان والعالم الآخر وتدبير شؤون العالم. أما آلهة الإتروسكيين وطرائق العبادة
وترتيب المعابد ومذابحها فتماثل نظائرها عند الإغريق والرومان. ومن آلهتهم تينية
(جوبتر) ويوني (جونو) ومنرفة (مينرفة) وتوران (فينوس) وماريس (مارس) وستلاند
(فولكان) ونيثوس (نبتون) وفوفلوس (باخوس) وكاثا (الشمس). وثمة أنصاف آلهة وآلهة
للعالم السفلي وشياطين يخشونها ومنهم شارو (شارون) الذي كانوا يعتقدون أنه يسكن
عالم ماوراء القبر. وكان الإتروسكيون يعنون عناية خاصة بشعائر الموت ويقيمون
الأضرحة الضخمة ويزودنها بالأدوات المنزلية والأسلحة وكل ما يلزم لاستعمال الميت
في الحياة الأخرى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق